د. أحمد موسى يكتب: من السلطة إلى الدولة – تحديات بناء السودان ما بعد الاستقلال.. كيف بدأ السودان مسيرته من “سلطة الاحتلال” إلى “سلطة وطنية”؟ (٣)
من السلطة إلى الدولة – تحديات بناء السودان ما بعد الاستقلال.. كيف بدأ السودان مسيرته من “سلطة الاحتلال” إلى “سلطة وطنية”؟ (٣)
د. أحمد موسى قريعي
مع إعلان استقلال السودان في الأول من يناير عام 1956، واجهت النخب الوطنية تحديًا حاسمًا: هل تستطيع بناء دولةٍ حديثةٍ، أم ستكتفي بوراثة سلطة الاحتلال دون إعادة هيكلتها؟
للأسف، سارت الأمور في الاتجاه الثاني. فبدلًا من تفكيك البنية الاستعمارية وإعادة تشكيل مؤسساتٍ وطنيةٍ فعالة، تم إعادة إنتاج نفس النظام الإداري والاقتصادي والعسكري، ولكن بأيدٍ وطنيةٍ.
*إرث الاستعمار: بنيةٌ لم تخدم الدولة المستقلة*
عند خروج البريطانيين، تركوا وراءهم نظامًا إداريًا مصممًا لخدمة مصالحهم، وليس لمصلحة الشعب السوداني. النخب التي تولت الحكم بعد الاستقلال لم تقم بإصلاحاتٍ جذريةٍ، بل اكتفت باستخدام نفس الأدوات الاستعمارية، مما أدى إلى ترسيخ سلطةٍ مركزيةٍ ضعيفةٍ لم تستوعب التنوع السوداني، وساهمت في عدم الاستقرار السياسي.
*أهم ملامح الانتقال من “سلطة الاحتلال” إلى “سلطة وطنية”*
- *حكمٌ مركزيٌّ ضعيفٌ وغير شامل*
تبنت النخب الوطنية نظامًا مركزيًا شديد التركيز في الخرطوم، رغم أن السودان بلدٌ مترامي الأطراف بتنوعٍ جغرافيٍّ وعرقيٍّ كبير.
لم تُتخذ خطواتٌ جادةٌ لإدماج الأقاليم المهمشة في الحكم، مما خلق فجوةً بين السلطة المركزية والمناطق الطرفية، وأدى لاحقًا إلى صراعاتٍ مسلحةٍ.
ظل الحكمُ في يد نخبٍ معينةٍ، خصوصًا من الشمال والوسط، دون تمثيلٍ حقيقيٍّ لكافة السودانيين.
- *جيشٌ وأجهزةٌ أمنيةٌ منحازةٌ للسلطة*
بُنيت المؤسسة العسكرية السودانية وفق النموذج الاستعماري، حيث كان دورها الأساسي حماية النظام وليس حماية الدولة.
لم يتم تطوير عقيدةٍ عسكريةٍ وطنيةٍ تؤمن بالتنوع السوداني، بل تم استخدام الجيش لقمع المعارضين في الأقاليم البعيدة عن المركز.
ظلت القوات المسلحة أداةً رئيسيةً في الصراع السياسي، حيث شهد السودان انقلاباتٍ عسكريةً متكررةً منذ الاستقلال، مما أدى إلى تقويض فرص بناء نظامٍ ديمقراطيٍّ مستدامٍ.
- *اقتصادٌ تابعٌ لمصالح الاستعمار*
عند الاستقلال، كان الاقتصاد السوداني يعتمد على تصدير المواد الخام مثل القطن والصمغ العربي، بينما كانت البنية الصناعية ضعيفةً جدًا.
لم يتم تنفيذ سياساتٍ اقتصاديةٍ وطنيةٍ تقلل الاعتماد على السوق العالمية وتحقق الاكتفاء الذاتي.
استمر السودان في لعب دور المصدر للمواد الأولية دون تطوير سياساتٍ صناعيةٍ وزراعيةٍ تخدم التنمية الداخلية، مما جعل الاقتصاد هشًا وضعيفًا أمام الأزمات.
*هل كان بالإمكان تصحيح المسار؟*
كان من الممكن أن تبدأ النخب الوطنية مسارًا مختلفًا من خلال:
- إصلاح النظام الإداري: بوضع أسسٍ للحكم الفيدرالي الذي يسمح بإشراك جميع الأقاليم في إدارة الدولة.
- بناء جيشٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ: يكون ولاؤه للدولة وليس للأنظمة الحاكمة، ويعتمد عقيدةً عسكريةً تعكس التنوع السوداني.
- إعادة هيكلة الاقتصاد: بالتحول من اقتصادٍ تابعٍ للاستعمار إلى اقتصادٍ قائمٍ على التصنيع والزراعة المتطورة.
- ترسيخ الديمقراطية: من خلال وضع دستورٍ دائمٍ يحكم البلاد وفق مبادئ العدالة والمواطنة المتساوية.
*ما الخيارات التي ضاعت في السنوات الأولى للاستقلال؟*
كان يمكن للحكومات الأولى إشراك القوى السياسية والمجتمعية في حوارٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ لتحديد شكل الدولة.
كان من الممكن إصلاح المؤسسات بحيث تكون مستقلةً عن السلطة السياسية، مما يضمن استمراريتها واستقرار الدولة.
فشلت النخب في استيعاب حقيقة أن الاستقلال ليس مجرد خروج الاستعمار، بل هو إعادة بناء الدولة على أسسٍ جديدةٍ.
*خاتمة*
بدلًا من تفكيك الهياكل الاستعمارية وبناء دولةٍ حديثة، اكتفت النخب الوطنية بوراثة السلطة دون إحداث تغييرٍ جوهريٍّ في طبيعة الحكم، مما أدى إلى سلسلةٍ من الأزمات السياسية والانقلابات والصراعات الداخلية.
هل يمكن اليوم إعادة تصحيح هذا المسار، أم أن السودان ما زال عالقًا في نفس الحلقة المفرغة؟ هذا ما سنناقشه في المقال القادم.