حسن عبد الرضي يكتب : أنماط طرائق التفكير السوداني (١٢) .. بين العلمانية، الدين، العدالة، والإنسانية
أنماط طرائق التفكير السوداني (١٢)
عوض الكريم فضل المولى
وحسن عبد الرضي
بين العلمانية، الدين، العدالة، والإنسانية
يتأثر التفكير السوداني بالخلفيات الثقافية والدينية والمجتمعية والعاطفية المتنوعة التي شكلت طرائق تفكير مواطني البلاد عبر التاريخ. ويبرز في هذا السياق النقاش حول العلاقة بين العلمانية، الدين، العدالة، والإنسانية، حيث تتداخل هذه المفاهيم لتكوين رؤية فكرية سودانية فريدة تجمع بين الموروث الديني والتأثيرات الفكرية الحديثة.
للحديث عن العلمانية والتدين في السودان، نجد أن العلمانية، باعتبارها مبدأ يفصل بين الدين والدولة وليس بين الفرد وتدينه، تثير جدلًا واسعًا في السودان نظرًا للخصوصية الدينية والثقافية للمجتمع. تاريخيًا، شهد السودان محاولات متعددة لتحديد موقع الدين في الحكم، وقد استثمرت العديد من الأحزاب اليمينية واليسارية والوسطية هذا الجدل من أجل التقرب إلى الناخب السوداني، مما أحدث ربكة فكرية وعاطفية وقطيعة بين مكونات المجتمع، حيث انقسم الناس بين الكفر والإيمان أو التدخلات الخارجية. فمن التجربة المهدية إلى نظام الإنقاذ الذي قام على أساس ديني، تراوحت الحكومات الحديثة بين الأسلمة الجزئية والعلمانية النسبية.
ورغم المفاهيم الشائعة، لا تعني العلمانية ما بعد الحداثة محاربة الدين أو أتباعه أو الجماعات الدينية المختلفة، ولا تفصل بين الإنسان وقيمه الأخلاقية وعقيدته، بل تهدف إلى ضمان حياد الدولة تجاه جميع الأديان، ما يتيح للمواطنين حرية العقيدة والممارسة الدينية دون تدخل سياسي أو استغلالها لأغراض سياسية. ومع ذلك، هناك انقسام حول تطبيقها :
هناك تيار ومذهب سياسي يؤيد العلمانية، إذ يرى أن السودان بلد متنوع دينيًا وعرقيًا، وبالتالي فإن الحل يكمن في دولة مدنية تفصل التدين الفردي والجماعي عن التدخل في السياسة، لضمان حقوق جميع المواطنين دون تمييز ديني.
في المقابل، هناك تيار آخر يرفض العلمانية ويعتبر أن الإسلام جزء لا يتجزأ من هوية الدولة السودانية دون مراعاة هوية المواطن السوداني، ويرى أن أي محاولة لفصل الدين عن الدولة تعد تفكيكًا للقيم المجتمعية والتقاليد.
أما التيار الوسطي، فيسعى إلى تقديم نموذج سوداني خاص، يكون فيه الدين مرجعًا أخلاقيًا دون أن يتحكم في النظام القانوني والسياسي بشكل كامل، كما ناقش اجتماع نيروبي بين الإسلاميين ومجموعة من المفكرين السودانيين في ملتقى الفكر الديمقراطي.
أما بالنسبة للعدالة والعلمانية في السياق السوداني، فيرتبط مفهوم العدالة بتطبيق القوانين بطريقة تضمن المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية. وهنا تظهر عدة قضايا جوهرية، منها القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية التي يرى البعض أنها تحقق العدالة من منظور ديني، بينما يرى آخرون أنها تميّز ضد غير المسلمين أو الفئات التي لا تتوافق مع بعض الأحكام الفقهية التقليدية. من ناحية أخرى، يطالب المدافعون عن الدولة المدنية بضرورة وجود قوانين قائمة على المواطنة والمساواة الإنسانية بدلاً من الدين، لضمان عدالة تشمل الجميع دون تمييز.
في ظل هذا النقاش، يبقى التحدي الحقيقي هو تحقيق توازن بين قيم المجتمع الدينية ومتطلبات العدالة الحديثة، بحيث لا يشعر أي طرف بالإقصاء.
وجدير بنا أن نتطرق إلى مفهوم العلمانية والإنسانية ما بعد الحداثة وليس العلمانية الفرنسية أو الغربية في الواقع السوداني. فالإنسانية، كمفهوم، تركز على القيم الأخلاقية المشتركة بين البشر، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية. وفي السودان، لطالما لعبت القيم الإنسانية دورًا في الحياة الاجتماعية، خاصة من خلال ثقافة التكافل الاجتماعي والتسامح بين الطوائف المختلفة. ومن هذا المنطلق، يمكن للعلمانية أن تكون إطارًا داعمًا للإنسانية عبر تعزيز حقوق الإنسان كمعيار أساسي بعيدًا عن الانقسامات الدينية.
ونرى أن الواجب يحتم دعم حرية الفكر والتعبير لضمان تعددية ثقافية ودينية حقيقية، وذلك من خلال تشجيع التعليم الحديث الذي يركز على العلوم والعقلانية بدلًا من التلقين.
إننا نقترح السعي إلى إعمال الفكر بحرية نحو نموذج سوداني فريد. فالسودان، بحكم تنوعه الديني والعرقي والثقافي، يحتاج إلى نموذج متوازن يجمع بين القيم الدينية والإنسانية، بحيث تتحقق العدالة دون أن يشعر أي طرف بالإقصاء. والتحدي يكمن في إيجاد صيغة تجمع بين مبادئ المواطنة، احترام الأديان، والحرية الفكرية، بما يحقق استقرارًا سياسيًا واجتماعيًا دائمًا.