عبد الحفيظ مريود يكتب.. كنوز محبّة: المانجلْ فى نيروبى
كنوز محبّة:
كتب عبد الحفيظ مريود
المانجلْ فى نيروبى
قبل عشرة أعوامٍ كنّا نوسّسُ شركةً إعلاميّة. مدثّر الهادى، محمود عبد الله وشحصى. عهِدنا بالمسألةِ القانونيّة إلى صديقى المحامى حاتم الياس. ولأنّه درسَ بالمغرب، فقد قدّم لنا مجموعةً من الأسماء الأمازيغيّة، لنختار منها اسماً. كانتِ الأسماء قد استُهلِكتْ، تماماً. لكنّه أضاف اسماً لامعاً: “أوْ تِرِكْ”. شرحَ لنا إنَّ الاسم بداويتى. من أبرز لغات شرق السُّودان. ويعنى (القمر). أوْ هى أداة التعريف فى البداويت. و “تِرِك” تعنى : قمَر. وقع اختيارُنا – بلا تردّد – على “أوترك”. وقعها جميلٌ. مرتبطةٌ بالسُّودان. بدلاً عن الأسماء الأمازيغيّة.
حاتم الياس إنقريابىٌّ قحّ. يعودُ نسبه إلى عبد الله جمّاع. أحد مؤسّسىْ السلطنة الزّرقاء. أعابثه كثيراً بأنَّ داوود روبينى حين زار سوبا عام 1520م، وكانتِ السلطنة لم تنقُلْ عاصمتها إلى سنّار، بعدُ. لم يأتِ على ذكر عبد الله جمّاع. أسهبَ فى وصف عمارة دنقس، الذى التقاه وجلس إليه أكثر من مرّة. لكنّه لم يشِرْ من قريبٍ أو بعيد إلى شخصٍ يُدعَى عبد الله جمّاع، وهو المفترض أنّه صاحبُ فكرة تأسيس السّلطنة وأحدُ الشّريكيْن. (جدّكَ لا يَعدو أنْ يكون أسطورةً، يا حاتم).
شايف كيف؟
حاتم الياس الإنقريابىّ، من “الجول” فى نهر النّيل، وُلدَ ونشأ فى مدينة الجنينة، غرب دارفور. قبل أنْ يكمل صباه وشبابه فى أمدرمان. فهو إبن تاجر مرموق، وخليفة من خلفاء الختميّة. درس القانون العام بالمغرب، جامعة محمّد الخامس. مثقّف ماركسىّ جسور. بلا ادّعاءات عريضة. يمكنكَ أنْ تتخطّاه. لا يوحى بأنّه يعرفُ شيئاً. قارئ نهمٌ وواعٍ للأدب، والأدب السُّودانىّ، تحديداً. شغل منصب الأمين العام العام لمجلس المصنّفات الفنيّة والأدبيّة فى حكومة الثورة.
(النّاس ديل يا مريود قايلنّى جيت نيروبى دى بالدّس..وجابوا لى صورة بعيدة زى الكأنىّ متخفّى يعنى. أنا زول مانجلْ..بخاف؟).
شايف كيف؟
(أنا متصوّر مع مبارك مبروك سليم..حاجة مختلفة من الشّرق. وبعدين القونى دا ود مثقّف وفاهم..ولّا عشان ما طالع من بيئة ناس عمر عشارى ديك؟)
فى قروب “الممر”، وهو قروب واتسابىٌّ يضمُّ عتاة المثقّفين السّودانيين، يتعارض حاتم الياس لمأمون التّلب، الشّاعر، ومؤسّس القروب، فى تهكّمات التّلب على (أكاديميّة هارفارد) فى معرض نقضه لخطاب د.نصر الدّين عبد البارى، وزير العدل فى حكومة الثورة. كأنّما يريدُ حاتم الياس أنْ يعيد إلى مأمون التّلب بعض رشده. كأنّما يريدُ أنْ يقول رأيكَ فى عبد البارى لا يستدعى التهكّم والاستهزاء ب “هارفارد”. لكنَّ التّلب يعى أنَّ نيرانه يجبُ أنْ تنالهما، معاً. الاعتراف بتفوّق هارفارد، إعترافٌ ضمنىّ بأنَّ تأسيس عبد البارى لمقولاته، ينبنى على أرضيّة صّلدة، بوجه أكاديمىّ، على أقلّ تقدير. وهو إذْ يُشيرُ إلى (بيئة ناس عمر عشارى)، فإنّه يشيرُ إلى الأندية التى تملكُ سلطة الاعتراف بكَ، مثقّفاً. منتدى دال، اتّحاد الكتّاب، أتنيه، بابا كوستا، قاعة الشّارقة، كلية الفنون الجميلة، كلية الموسيقى والدّراما، معهد جوته، المركز الثقافى الفرنسى…الخ.
وبمثلما جرى تسميم الحياة السياسيّة، الفضاء السياسىّ، بضرورة الحصول على “شهادة الانتماء للنّادى السياسىّ”، حتّى تتمكّن من ممارسة السياسة، جرى تسميم الفضاء الثقافىّ. طالعتُ مثقفين لا يرون فى محمّد حسن التّعايشىّ ونصر الدّين عبد البارى، إلّا باحثيْن عن مناصب. بعضهم يرى أنّهما لا يساويانِ شيئاً لولا “حكومة الثورة”. هل مثل هذا الاختزال – من مثقّفين – يشيرُ إلى غير تسميم الفضاء الثقافىّ؟ سيكون الوليد مادبو، حاتم الياس، أسامة سعيد، د. علاء الدّين نقد، وغيرهم، مجرّد أسماء صنعتها “ثورة ديسمبر”، تجرى لتحصل على مناصب فى “حكومة الجنجويد”.
شايف كيف؟
حاتم الياس، المانجل، يمارسُ المحاماة فى مكتب شهير لمحامين يوغنديين فى كمبالا، التى يقيمُ فيها منذ عامين. يكسب قوت يومه ضمن “معافرات” كبرى. كنتُ قد كتبتُ عن رفضى لدعوته لى إلى كمبالا، وأنا أخطّط للمضىّ قُدُماً فى رحلتى الغرب-إفريقيّة. قلتُ له: يوغندا ليستْ شيئاً فى خريطة الإبداع والثقافة الإفريقيّة. التقينا فى نيروبى. نيروبى ممكنةٌ – بالطّبع – وحميمة. وفيرة الجمال. يمكنكَ أنْ تلتقىَ فيها بآثار نغوغى واثينغو، على الأقل.
نركبُ سيارةَ أجرة. سنذهبُ لزيارة د. أحمد الصّادق فى شقّته، بنيروبى ويست. نجازف كتباً نادرةً من مكتبته. يقع حاتم الياس على لويس ألتوسير. أحمد الصّادق لا ينازعُه، لأدبه الجّمّ. سأحجم عن ذكر العناوين التى جازفتها من مكتبة أحمد الصّادق. سيبكى حاتم الياس طويلاً لرحيل صديقنا الطّيب أحمد الطّيّب جرّاء رصاصة طائشة فى الحاج يوسف.
شايف كيف؟
ميثاق السّودان التأسيسىّ ليس الطّريق الموصلة حاتماً إلى كرسىّ الوزارة.
المانجل قلقٌ، متوتّر مثل وتَرِ القوس، كما يقول الطيّب صالح. لكنّه ليس جباناً. فهو سليل ملوك ومقاتلين أشدّاء. ربّما لا يفوقه فى الشّجاعة إلّا إبن عمّه صديقنا ميرغنى أبّشر. سأكتبُ عنه بالمحبّة المكينة، ذات يوم. كما سأفعلُ مع ياسر العديرقاوىّ.