علي أحمد يكتب: جلحة.. الثائر شقَّ الصحراء إليه.. لبَّاه
يبكوكَ العشامة الضَّاقوا خَمَّ خيراتك
وتبكيك الفضايلُ يا سماحَ سطوَاتِك
تبكيك الحِسَانُ البَفْهَمْنَ كلماتِك
يا فارسَ النزالِ المُتَّ بأرضِ أبواتِك
هكذا نعته إحدى نساء بلادي، وحق لها؛ فالرجل، على بساطته، كان يتمتّع بأخلاق الفرسان وسِماتهم وصفاتهم ونُبلهم.
ويذكر الجميع كيف كان رد فعله إزاء تعامل أحد زملائه مع أسيرٍ من كبار كيزان الجزيرة والأمن الشعبي ومسؤول تنظيم استنفار الإرهابيين القتلة، عندما تم اعتقاله في إحدى المعارك. ورغم أن الأسير كان مجرماً وإرهابياً، فإن الجنرال جلحة لم يقبل ما بدر من زميله من أسلوب في التعامل معه؛ إذ إن الرجل قد وقع في الأسر، وهو إلى جانب ذلك كبير في السن، فما الداعي لأن تُبشِّع به؟! هكذا كان لسان حال *جلحة* وهو يوبّخ زميله أمام الملأ بطريقته الرائعة والبسيطة.
إنها أخلاق الفرسان.
منذ اندلاع الحرب، تبنّى الشهيد الجنرال *جلحة رحمة مهدي جلحة* أطروحة ورؤية الدعم السريع، وأعلن مساندته لها، فخاض جميع المعارك، ابتداءً من الحدود الليبية السودانية، مروراً بدارفور وكردفان والخرطوم والجزيرة وسنار والنيل الأزرق، حتى حدود الشرق عند تخوم الفاو، باحثاً عن نصر أو شهادة، فأمثاله من الثوار يكرهون الموت على أسرتهم كما تموت البعران.
ظلّ الجنرال المحبوب الشهيد *جلحة* يطلب النصر أو الشهادة خلال جميع المعارك التي خاضها، ملتزماً أخلاق الفرسان وشجاعتهم، فنال الأخيرة عن طريق استهدافه بمسيّرة بالقرب من معسكر حطّاب بشرق النيل. فلم يجرؤ أحد من الكيزان، الذين ظل يطلب منهم ويلحّ عليهم أن ينازلوه في ميدان القتال رجلًا لرجل، على تلبية دعوته أو قبول التحدي، بل اختبؤوا خلف طائرة مسيّرة جبانة غدروا به بها، كعادتهم. فاستشهد، ونال شقيقه ومن كانوا معه المصير نفسه، لهم جميعاً الرحمة والمغفرة.
لم يكتفِ الكيزان بهذه العملية الجبانة الغادرة، بل أعقبوها بالترويج من خلال بعض مقاطع الفيديو المفبركة بأن الرجل استُشهد بغدرٍ وخيانة من داخل قواته، في محاولة للإيقاع بين مجموعات *المسيرية* التي ينتمي إليها الشهيد، ومجموعات *الماهرية* التي يروّجون أنها تُسيطر على قيادة الدعم السريع، على أساس عرقي وقبلي. وهذا ديدن استخبارات الجيش وأجهزتهم الأمنية الخبيثة، التي يديرها الكيزان، فاشلة في كل شيء، حتى إنها فقدت براعتها وخبرتها القديمة في صناعة الحروب بين القبائل السودانية المختلفة. لكنها لن تنجح هذه المرة، فدم الشهيد الجنرال المحبوب لن يكون مداداً لكتابة مشاهد من الفتن القبلية التي يسعى الكيزان لإحداثها، بل سيُكتب به فصلٌ جديدٌ من الانتصارات المؤزرة، والتلاحم والوحدة، إلى أن يتحقق حلم الشهيد ببناء وطن خالٍ من الإرهابيين الكيزان.
إن هذه *الفبركات* لن تنطلي على أحد، لأن الجميع يعلمون جيداً، خصوصاً جنود وقادة الدعم السريع، تفاصيل ومكان استشهاد *جنرال جلحة*، رحمه الله وغفر له.
كان الجنرال *جلحة* فاكهة الحرب، إن كان للحرب فاكهة، وكان فارساً مقداماً مغواراً هماماً، لا يخور ولا تلين له عزيمة. كان يحارب بأخلاق الفرسان – كما أسلفت – وكان يخاطب الناس بلسان نقيٍّ طريٍّ وحسٍّ فكاهيٍّ كوميديٍّ حبّبه إلى الجميع، فنعاه أعداؤه قبل أصدقائه وأهله ورفاقه، ولم يتمنَّ أحدٌ رحيله أو موته. كان لدى الجميع، حتى المختلفين معه (عدا الكيزان)، شعورٌ خفيٌّ داخليٌّ جيّاشٌ بأن هذا الشاب الكردفاني الباذخ ابن بلدٍ أصيلٍ وشهم .. “قماشته نظيفة”، ومنبته حسن، وأرومته فاضلة.
شخصياً، لا أعرف الشهيد الجنرال *جلحة* إلا من خلال بعض مقاطع الفيديو التي كان يبثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال زياراتي المتباعدة والمتقطعة لصفحته في “فيسبوك”. وقد لاحظت مدى تفاعل خصومه معه، وكيف كانوا يحاورونه ويحاورهم بلكنته الكردفانية اللطيفة. ورغم أهوال الحرب التي عاشها، كان مسرحاً بشرياً مكتمل الأركان، بنصوصه وسيناريوهاته وستائره ومؤثراته الصوتية وإضاءته. ورغم أنه كان مقاتلاً لا يفارق بندقيته، يجوب بها أركان البلاد، فإنه كان يضجّ ويشعّ بالسلام الداخلي، وهذا سر تأثيره على الآخرين، بمن فيهم خصومه الذين لم يكونوا يتعاملون معه على أنه خصمٌ مبينٌ وعدوٌّ صريحٌ؛ كانوا يرون فيه أسراراً وأنواراً، لأنه كان فارساً مغواراً وأخلاقياً صميماً.
لقد ذهب مغدوراً بأيدي اللوثة المأفونين، فرحمة الله عليه شهيداً، مع الأنبياء والصديقين، وحسن أولئك رفيقاً، في الخالدين.
إن البكاء على الفوارس عار.