د. علي حمودة يكتب: سايكلوجيا الجماهير
عندما يتحدث علماء علم النفس امثال ابن خلدون أو غوستاف لوبون عن المجتمعات أو الشعوب وتأثرهم بشخصيات قيادية فإنك تعتقد من للوهلة الأولى أنهم يقرءون الطالع أو أنهم يسافرون عبر الزمن ليقدموا لنا نظريات ملهمة في قراءة الواقع. من اكثر الكتب التي عبرت عن الحالة السودانية كتاب سايكلوجيا الجماهير، حيث ذكر الكاتب أن الأفراد المتجمعين في الجمهور يفقدون كل إرادة، فإنهم يتجهون غرائزيا نحو ذلك الشخص الذي يمتلكها. الان اصبحت المديا والمسموعة والمرئيات من فضائيات ومواقع تواصل اجتماعي. حيث ذكر أن الجماهير قد لا تبخل بحياتها عندما يتمكن القائد من إحداث الهياج الشعبي فيها، ويشهد لذلك أن جنرالا في الجيش، هو نابليون بونابرت، أصبح شعبيَّا فيما بعد، واستطاع أن يسوق معه مئة ألف شخص مستعدين للتضحية بأنفسهم من أجل قضيته. ومع كون الجماهير، بحسب تصور الكاتب، سريعة الانفعال والتأثر، وساذجة يمكن أن تصدق أي شيء، فإنه لن يكون مطلوبا من القائد للتأثير عليها أن يخوض معها محاجات عقلية وبراهين منطقية، وإنما المطلوب أن يستدر عواطفها بعنف ويثير خيالاتها بقوة، وهنا يسوق الكاتب لنابليون كلامه العميق في مجلس الدولة الفرنسي: “لم أستطع إنهاء حرب الفاندي إلا بعد أن تظاهرت بأني كاثوليكي حقيقي، ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت بأني مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا، ولو أنه أتيح لي أن أحكم شعبا من اليهود لأعدت من جديد معبد سليمان”. خلو الساعة السياسية من المفكرين والقادة الملهمبن امثال الشفيع وجون قرنق، محمود محمد طه والصادق المهدي، الترابي ومنصور خالد وفاطمة أحمد إبراهيم وسعاد الفاتح شخصيات سودانية تكون شخصياتها في عهد المستعمر والحكم الثنائي مشهود لها بالفكر والكاريزما، السؤال المنطقي هل عقرت حواء عن الإنجاب ام تم تجهل ووأد المفكرين ومنابع الفكر في بلادي. الافتقار للقيادة الملهمة والمفكرين والجفاف الفكري لم يكن وليد صدفة نتج من سياسة منظمة جراء الحكم الدكتاتوري المتعاقب وانتهاجه شراء الذمم وإفساد الضمائر عن طريق الترغيب أو الترهيب أو التصفية السياسية، فترة حكم جعفر نميري كان له القدح المعلى في تصفية الخصوم امثال الشفيع ومحمود محمد طه وغيرهم من المفكرين وتشريد منصور خالد والفيتوري ووردي، واستمر المؤتمر الوطني وثورة الإنقاذ على نفس النهج محاربة الأحزاب الديمقراطية والفكر الحر. نتج عن هذه السياسات التشظي الذي طال الأحزاب والجيش والخدمة المدنية الى أن وصلنا الى مرحلة الحرب والانقسامات المتتالية بين الأحزاب السياسية والحركات المسلحة، يعود بنا الى الوراء وقصة عجوبة الخربت سوبا الأسطورية وعجوبة يمكن أن نرمز لها بالهوية السودانية الشعب الذي يعاني أزمة هوية فهو شعب يعاني من تناقض نفسي يشابه الازمة النفسية التي يعيشها طفل لقيط مجهول النسب ومجهول الهوية. أزمة النخب والقيادة الملهمة وضعت البلد في فراغ دستوري وفقر فكري، هذه الحالة سوف ينتج عنها سودان مشوه وشعب موعود بحرب طويلة نتيجة الانهيار المجتمعي والانشطار الحزبي والتنظيمي وتعدد الآراء والاتجاهات، وذلك واضح من خلال التباين في مواقف مكونات تقدم والتباين في مكونات الجيش أو الدعم السريع، فلا توجد أهداف سامية ولا قواسم مشتركة. بين تحالفات المشتركة والجيش والمليشيات الإخوانية تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى. لنستمد العبرة من التاريخ، فالسودان الذي فشلت فيه النخب السياسية والعسكرية على حد سواء لم تستطع أن تقدم نموذجا مثاليا، فبالرغم أن السودان به من العلم والثقافة والفكر والأدب والثروات والموارد إلا أن العجز السياسي أعاق كثيرا من التقدم الفكري في نواحي الحكم والخدمة المدنية ولم نرى أي فكرة أو أطروحة يتم تطبيقها بمعزل عن المنحنيات السياسية والأيدولوجيات المتصارعة، فالصراع الفكري واختلاف الأطروحات الحزبية عطلت التوافق على ميثاق يلتف حوله السودانيون. نحتاج الى التسليم والاعتراف بفشل الدولة على كافة الأصعدة والرجوع الى منصة التأسيس لننهض بوطن معافى سودان يسع الجميع لنضع كل الخلافات وجراحات الماضي جانبا ونسعى اولا للمحافظة على كيان مشترك يمكن أن ننطلق منه نحو السلام والتعافي، وجبر الخواطر، وتثبيت حكم الدستور.
مداميك