لماذا تحاربنا يا البرهان ؟.. جملة “عبد الرحيم” المركزية لخصت الصراع في السودان

بقلم: عمار نجم الدين

جملة عبد الرحيم دقلو: “نحن عملنا ليك شنو يا البرهان… تحاربنا ليه؟” ليست مجرد تعبير عفوي عن خيبة أمل، بل هي مفتاح لتحليل العلاقة الاستغلالية بين المركز والهامش في السودان. هذه العبارة، التي قد تبدو للبعض بسيطة أو عاطفية، تحمل في جوهرها وصفًا دقيقًا لعقود من الاستعمار الداخلي الذي مارسته النخب المركزية ضد الأطراف. فالمركز، الذي لطالما احتكر السلطة والثروة، لم يتعامل مع الهامش كشريك، بل استغله كخزان بشري وموارد تخدم مصالحه.

الإحصائيات التاريخية تُظهر مدى هذا الاستغلال. الشمال النيلي، الذي يمثل حوالي 5.5% فقط من السكان، استحوذ على 79.5% من المناصب السياسية في الفترة 1954-1964، واستمر في الهيمنة بنسبة 68.7% خلال حكم نميري و70% في المجلس الانتقالي بقيادة سوار الذهب. هذا النمط من السيطرة ليس وليد الصدفة، بل يعكس سياسة ممنهجة لتهميش الأطراف وإبقاء المركز في موقع السيادة. الحكومات السودانية المتعاقبة لم تكن وطنية بالمعنى الحقيقي، بل كانت أنظمة استعمار داخلي مارست ذات سياسات المستعمر الأجنبي، ولكن بأساليب داخلية أكثر خطورة.

سياسة “فرق تسد”، التي استخدمها المركز بإتقان، استغلت التنوع الثقافي والعرقي في السودان لضرب المكونات بعضها ببعض. في دارفور، استُخدمت المكونات العربية لضرب المكونات غير العربية، والعكس صحيح. في حرب 15 أبريل 2023، تكررت هذه اللعبة، حيث استعان المركز بحركات مثل حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وكلاهما من المكونات غير العربية، لضرب قوات الدعم السريع التي تمثل المكونات العربية. هذه الاستراتيجية لا تهدف سوى لإضعاف الهامش وضمان استمرار المركز في موقع السيطرة.

عبد الرحيم دقلو، الذي كان يعتقد أن ولاءه للمركز سيمنحه موقعاً داخل دوائر السلطة، وجد نفسه مصدوماً عندما أدرك أن هناك حدودًا لا يمكن للهامش تجاوزها. المركز، الذي يرى نفسه السيد المطلق، يعتبر أي محاولة من الأطراف للارتقاء تهديدًا مباشرًا لهيمنته.

‎ “مساعد الياي لا يمكن أن يصبح ياي و  “العين لا تعلو على الحاجب”، تُلخص هذه العقلية. الصدمة التي عبر عنها عبد الرحيم ليست شخصية، بل هي انعكاس لواقع طويل من الاستغلال الممنهج.

عندما قال عبد الرحيم: “لماذا تقاتلنا أيها المركز..؟.”، كان يضع إصبعه على جرح عميق في تاريخ السودان. المركز لا يرى الهامش سوى أداة تُستخدم عند الحاجة، ثم تُهمش وتُقمع عندما تحاول المطالبة بدور حقيقي. هذه الجملة، التي قوبلت بالسخرية من قبل نخب المركز، هي في الواقع واحدة من أهم اللحظات في فهم طبيعة الصراع السوداني. لكنها في ذات الوقت تكشف عن نرجسية المركز الذي لم يدرك خطورة هذه العبارة ولم يستوعب أنها تعبر عن بداية وعي جديد لدى الهامش.

السودان الجديد الذي يُتحدث عنه كثيرًا لن يكون ممكنًا دون مواجهة هذا التاريخ الطويل من الاستغلال وإعادة هيكلة العلاقة بين المركز والهامش. لا يمكن بناء دولة جديدة دون الاعتراف بحقوق الأطراف وضمان مشاركتها العادلة في السلطة والثروة. السودان الجديد يجب أن يتجاوز سياسة “فرق تسد”، ويُبنى على أسس المساواة والعدالة الحقيقية.

السؤال الذي يظل قائمًا: هل يستطيع الهامش تجاوز هذه المرحلة وإعادة صياغة العلاقة مع المركز..؟ أم أن لعبة “العين والحاجب” ستستمر لتعيد إنتاج نفس النمط القديم، حيث يبقى السودان أسيرًا لاستعماره الداخلي..؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.