لا يفتى ومالك في المدينة

بدون زعل : عبد الحفيظ مريود

حين اقتربت حافلة الركاب من آخر محطة في السامراب شرق، بدأت ارتكازات الجيش. قاموا بإنزال الرجال من الركاب. أوقفونا صفاً، وطلبوا أن نرفع أيدينا للتفتيش، وذلك بعد أن جمع أحدهم هوياتنا. حين سمحوا لنا بالصعود، قال لي الجندي، وهو يناولني الهوية:” ود بلدنا ياخ…نيالا شمال”، بادلته الابتسامة وركبت في المقعد الأخير.

كان بعضهم ما يزال ينتظر أن يركب، أو ما يزال يجيب على أسئلة الجنود، حين صعد شاب عشريني الحافلة، متخطياً مقاعد النص، يقصدني. كنا ثلاثة في المقعد الأخير. وقف أمامي وسألني: “الواجب شنو؟”. لم أفهم، استفسرته، فأعاد السؤال بذات مفرداته. كنت فعلاً لا أعرف مقصوده. تبرع رجل خمسيني ملتح، يلبس جلابية بيضاء، وطاقية، وضيء الوجه، فسأل الجندي:” تقصد المهنة؟”. أجاب ب “نعم”..قلت له إنني معلم، أستاذ يعنى. سألني في أي مدرسة، قلت له في أمدرمان “عندك إثبات؟”.. ناولته البطاقة القومية، المكتوب فيها في خانة المهنة “صحفي”. تفحصها، أعادها إلى، وطلب مني النزول.

شايف كيف؟

عند باب الحافلة، حين صرت على الأرض، إذ كان هو قد انتحى جانباً كي أنزل، قال له ود نيالا “يا سعادتك…الزول دا ما فتشناهو ياخ…ما عندو حاجة”..ووجه كلامه لي “أركب ياخ”.. سد من طلب منى النزول باب الحافلة، وسألني “ما عاجبك الشغل دا؟”.. قلت “لا…فهذا عملكم..كيف لا يعجبني؟ ما عندي اعتراض”.. قال كلمتين، ونزل فركبت.

شايف كيف؟

حين تحركنا همهم الركاب بما يفيد إن جنود مالك عقار الذين جاءوا بهم من النيل الأزرق، هم مشكلة.. سردوا حكايات عن حوادثهم مع سكان الجرافة، وبعض أحياء كرري. وعن رائحة الخمر الفائحة منهم، نهاراً.

لكن “الرجل الثاني في الدولة”، كما وصف نفسه، مالك عقار، لا يجد بأسا في أن يدفع بهم إلى المعارك، في إطار إثبات وطنيته، وتقديم ما يلزم لاستحقاق منصب “الرجل التاني في الدولة”. كانت آخر دفعية، وليست الأخيرة بالطبع، الذين قضوا أو تم أسرهم في معارك “جبل موية”، أمس. ذاك المتحرك الذي كان عليه أن ينسرب إلى “ود الحداد”. الصفحات الظريفة قالت إن (الجيش تصدى لهجوم المليشيا، وكبدها خسائر فادحة فى جبل موية). وهو نفس ما قيل في متحرك شندي، المتجه لتحرير مصفاة الجيلي..

لكن لا بأس…

ليس ثمة رغبة في إثبات شيء، أو نفيه…

كان مالك عقار – فيما يواجه جنوده الموت – ينازل أمريكا فى معركة طواحين الهواء (ما ح نمشي جدة ولا ح نمشي جدادة)، مستظرفاً، ومنتحلاً شخصية جون قرنق الخفيفة الدم، الضاحكة، أمام المايكرفونات، التي ينتحلها منذ صار “الرجل الثاني في الدولة”. مستهجنا الدعوة وطريقتها، أن يتم توجيهها إلى قائد الجيش، البرهان، عبر مكالمة هاتفية من بلينكين، وزير الخارجية الأمريكى، مستدعياً “عنتريات” عمر البشير.

شايف كيف؟

لم تلبث الخارجية، عبر وزيرها المكلف أن قالت إنها تنتظر “الدعوات الورقية” لمنبر جدة.. وهي، إذ تفعل ذلك، تنزع ورقة التوت عن سيادة ” الرجل الثاني في الدولة”، لأنه سيبلع كلامه، بعد أن ترسل حكومته وفدها إلى جدة. في الغالب، ستكون كابينة القيادة الكيزانية قد لمع قدامها سراب الوعود الروسية “في متاهة الشوق”، كما قال الطيب صالح. مما يجعلها تتوهم القدرة على تحدي الولايات المتحدة الأمريكية، أو أن تلعب مع الكبار. الأرجح أنها ظنت السودان على قدم المساواة مع (الصين، روسيا، إيران، تركيا)، بما أنها دخلت هذا الحلف. لكن اللافت أن هذا الحلف سيتركك ” تاكل نارك”، كما فعل مع غزة…سيكتفى بهرشات سياسية، متناغمة مع سياسات أمريكا، فضلاً عن أن الإسلاميين قد وضعوا أغلب “البيض” في سلة العزيزة مصر، أخت بلادي الشقيقة…ومصر “بياعة”، مصر أداة أمريكية، كاملة الدسم.

المهم…

ما علينا…

نرجع إلى مالك في مدينة بورتسودان.

الرجل الذي بشرنا، حين كان والياً على النيل الأزرق، أنا والزملاء حاتم بابكر، ياسر عبد الماجد وآخرين، بأن أولوياته بناء الطرق والمؤسسات التعليمية، في الولاية، مستفيداً من قروض بنك التنمية الإسلامي بجدة، وبنك التنمية الإفريقي، وميزات الحكم الاتحادي، ناظراً إلى تخلف الولاية في هذين الاتجاهين، تحديداً، ذاك الرجل بعد ما يقارب العشرين عاما، لم يضع طوبة لمدرسة جديدة في “باو”، “جام”، و “سودة”، بلدان أهله الانقسنا، أو غيرها. بل على العكس…ما يزال يصدر شباباً ليسألك أحدهم عن ” الواجب شنو”، وحين تعطيه بطاقتك لا يعرف إن كنت غششته أم لا.

شايف كيف؟

الصعود إلى منصب “الرجل الثاني في الدولة”، قدم ويقدم في سبيله مالك عقار كل غال ونفيس. الرجل الذي لم يستطع أن يحافظ على الحركة الشعبية/شمال، متماسكة، بعد انفصال الجنوب، تفرقت أيدي سبأ، سيخوض تجربة الحفاظ على “وحدة السودان وصيانة أراضيه”، و “دحر تمرده”، متقمصا شخصية لم “يعايشها” بشكل علمي، كما يقول أهل المسرح، هي شخصية جون قرنق، الفذة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.