أسماء محمد جمعة تكتب: هكذا تحوّل التضليل الإعلامي إلى سلاح يفتك بالشعب السوداني.. فما المخرج؟

 

منذ وصول الحركة الإسلاموية إلى السلطة في عام 1989، شرعت في اعتماد التضليل كسياسة ممنهجة للسيطرة على وعي السودانيين. وقد تصاعد هذا النهج بشكل ملحوظ منذ اندلاع ثورة ديسمبر، وتفاقم أكثر مع اندلاع الحرب الحالية، حيث تحولت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة معركة من نوع مختلف: حرب على الوعي. إنها حرب قائمة على التضليل المنظم، تهدف إلى تخويف المواطنين من التغيير، ومن الداعين إليه، ومن شعارات الثورة: الحرية، السلام، والعدالة. وهي مبادئ يُعد الإيمان بها شرطًا أساسيًا لبناء دولة مستقرة ومزدهرة لا تريد الحركة الاسلامية للشعب أن ينعم بها.
في هذا السياق، انجرف كثير من السودانيين وراء الحملات الدعائية الكاذبة التي أصبحت تمثل سلاحًا أشد فتكًا من السلاح الناري، لأنها تستهدف الوعي الجمعي وتضرب في عمق البنية النفسية والاجتماعية للأفراد. أدى ذلك إلى انقسامات مجتمعية عميقة وطويلة الأمد، تجاوز أثرها آثار الحروب التقليدية، سواء على المستوى المادي أو الرمزي.
وهنا يبرز تساؤل جوهري: ما الذي يجعل قطاعات واسعة من الشعب السوداني قابلة للاستجابة لمثل هذا النوع من التضليل؟


تبدأ الإجابة من البيئة الثقافية والإعلامية الهشة التي تشكلت بفعل عقود من التهميش التعليمي والسيطرة الإعلامية الأحادية وغسل العقول بالشعارات الكاذبة والأوهام . إذ أن ضعف الوعي و التعليم النقدي، وغياب الإعلام المستقل، وافتقار الناس لثقافة التحقق من المعلومات ، كلها عوامل تسهّل تسلل الأكاذيب إلى العقول. هذا الواقع لا يعيش في عزلة، بل يتفاقم في أوقات الأزمات، حيث يبحث الناس عن روايات مبسطة تفسر التعقيد، وتمنحهم شعورًا بالأمان أو الانتماء أو حتى أحساس بالرضا الوهمي .

ولأن الحرب أرض خصبة للدعاية، فإن كل طرف في النزاع السوداني بات يعيد إنتاج روايته بشكل مكثف، مستندًا إلى لغة عاطفية، وشعارات وطنية أو دينية أو مناطقية، وصور صادمة تُبث دون سياق. في مثل هذا المناخ، تُشوَّه الحقيقة، ويُعاد تشكيل وعي الجمهور على أسس انفعالية لا تحليلية. ومع غياب إعلام مهني موثوق، يصبح المواطن العادي أسير روايات انتقائية تتغذى على الخوف، والاصطفاف، والانتماءات الضيقة.
وتزداد خطورة هذا المشهد بسبب قابلية الإنسان النفسية للتأثر بالتكرار. فقد أثبتت الدراسات أن الكذبة حين تُقال مرارًا، يصبح من الأسهل تصديقها. هذه الظاهرة تُعرف بتأثير “الحقيقة الوهمية”، وتُستغل ببراعة في الحملات الدعائية، حيث تُعاد الرسائل نفسها باستمرار حتى تتحول من رأي مشكوك فيه إلى “واقع” في أذهان المتلقين.
ولا يمكن فهم انسياق الناس خلف التضليل دون التوقف عند البُعد الانتمائي. فالخطاب القبلي والمناطقي، الذي تفاقم بشكل خطير في السنوات الأخيرة، استُخدم كأداة لتبرير الروايات الكاذبة، وتأجيج الكراهية، وتحويل الصراع السياسي إلى صراع اجتماعي بين مكونات المجتمع السوداني. وحين تتغلب الانتماءات الضيقة—القبلية والجهوية—على الفكرة الوطنية، تصبح المعلومة الصحيحة مرهونة بمصدرها لا بمصداقيتها، وتُقبل أو تُرفض بناءً على من قالها، لا ما تحتويه.


في هذا الإطار، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا حاسمًا، ليس فقط في نقل المعلومات، بل في تشكيل الوعي وتوجيه الرأي العام. فمقاطع الفيديو المقتطعة، والصور المفبركة، والعناوين المثيرة، والإشاعات المتداولة عبر فيسبوك وواتساب، تجعل من هذه المنصات حقل ألغام معلوماتيًا، يصعب فيه التمييز بين الصحيح والزائف. إذ أن المعلومة الكاذبة، بحكم إثارتها، تنتشر أسرع من الحقيقة، وتستفيد من ميل الناس لتصديق ما يتوافق مع رغباتهم .
ومع ذلك، فإن هذا الواقع، مهما بدا مظلمًا، ليس قدرًا محتوما. في الظروف الطبيعية يمكن كسر دائرة التضليل إذا توفرت إرادة رسمية جادة، وجهود متضافرة على مستويات متعددة: من خلال إصلاح التعليم وإدخال مهارات التفكير النقدي، ودعم الإعلام المستقل، وتنشيط المجتمع المدني في التوعية، وتحمل النخب مسؤوليتها الأخلاقية، ووضع آليات للمساءلة القانونية تجاه مروجي الكذب والتضليل.


ولكن في ظل الوضع الحالي الذي يعيشه السودان و الذي تغيب فيه الدولة وقدرتها على معالجة المشكلة بشكل علمي، يصبح الحل في يد المجتمع المدني. يجب تكثيف جهود التوعية والتثقيف عبر المبادرات الشعبية الفردية والجماعية، وتعزيز دور النخب المجتمعية والإعلام المستقل في تقديم الحقائق. كما يمكن الاستفادة من التكنولوجيا لإنشاء منصات ومجموعات للتحقق من الأخبار، وتعزيز التضامن المجتمعي لمواجهة الانقسامات التي تغذي التضليل.


إن التضليل الإعلامي في السودان ليس ظاهرة عابرة، بل نتيجة تراكم طويل من الإقصاء والإستغلال الرسمي ، والضعف المؤسسي، والانقسام الاجتماعي . لكنه قابل للمواجهة إذا توفرت الإرادة، وتبلور مشروع وطني يؤمن بأن الحقيقة ليست وجهة نظر، بل حجر الأساس لأي تحول ديمقراطي حقيقي.


فحين يُستعاد الوعي، تبدأ أولى خطوات التحرر، ليس من الاستبداد السياسي فقط، بل من سيطرة الكذب والتضليل أيضًا.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.