دكتور الوليد مادبو يكتب: من الانحياز إلى التواطؤ: في تفكيك موقف عبد الله علي إبراهيم

من الانحياز إلى التواطؤ: في تفكيك موقف عبد الله علي إبراهيم

دكتور الوليد آدم مادبو

ردًّا على مقال الدكتور عبد الله علي إبراهيم “وليد مادبو: لا تهدم سياجاً لم يتفق لك بعد لماذا قام في أول أمره

 

استعان الدكتور عبد الله علي إبراهيم بتعريف ماكس فيبر للدولة ككيان يحتكر العنف المشروع داخل حدود جغرافية معينة، ليؤسس حجته على أن ما سمي “دولة 56” تظل دولة حديثة حتى وإن كانت عنيفة، طالما أنها حافظت على هذا الاحتكار. لكن الدكتور عبد الله، في استدعائه هذا، يغفل عن أن فيبر نفسه لم يُنتج هذا التعريف في فراغ معرفي، بل كأداة لتحليل واقع سياسي واجتماعي، لا لتقديس بنى سلطوية شوهاء.

الدولة ليست “وجودًا ميتافيزيقيًا” لمجرد أنها تحتكر العنف. بل إن هذا التعريف، إذا جُرّد من شرط الشرعية والمساءلة والعدالة، يتحول إلى تبرير للاستبداد. احتكار العنف بلا مساءلة ليس دولة حديثة بل مافيا بلباس رسمي. هنا نعيد طرح السؤال: *ما قيمة دولة تحتكر العنف، لكنها لا تحمي المواطن، لا تضمن له الخبز ولا الكرامة، بل تتآمر عليه في كل منعطف؟*

أخطر ما في مقال الدكتور عبد الله ليس دفاعه عن الدولة، بل تسييسه لما يُفترض أنه موقف علمي محايد. فيبر لم يطلب من أحد أن يقبل أي دولة طالما أنها تمارس العنف باحتكار؛ بل وصف ظاهرة، ليبدأ النقاش السياسي والأخلاقي بعد ذلك. لكن *عبد الله علي إبراهيم يختزل “العلم السياسي” في عتبة ما قبل الأخلاق، ثم ينهي الحوار عندها.*

ما فعله د. عبد الله هو تحويل العلم إلى أداة إيديولوجية للمحافظة على الوضع القائم، لا لتحليله أو تجاوزه. بهذا المنطق، يمكن الدفاع عن أي نظام عسكري في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية، طالما أنه يحتكر العنف. بل يمكن إسباغ الحداثة على أنظمة كارثية لمجرد أنها تمتلك أجهزة قمع منظمة.

*الشاعر روبرت فروست قال: لا تهدم سياجاً حتى تعرف لماذا أُقيم أول مرة. وأنا أقول: لا تقدّس سياجاً لم تُسأل عن سبب إقامته أصلاً.* دولة 1956 لم تنشأ على أساس عقد اجتماعي، بل كانت امتدادًا لمؤسسة استعمارية رُكّبت فوق بنية هشّة، ثم توارثتها نخب عسكرية ودينية، وظلت تُستنسخ على حساب الأطراف، على حساب الهامش، على حساب الإنسان السوداني.

منذ نشأتها، كانت دولة الإقصاء، دولة الطائفية، دولة الأمن فوق العدالة، دولة العاصمة فوق السودان. *فهل يُطلب منا أن ندافع عن سياج قام لحماية الامتيازات وتكريس القهر، لا لضمان الحريات أو صيانة الكرامة؟*

*لم أدعُ في مقالي (بورتسودان: حين تتعرّى الدولة على سواحلها) إلى “حل الدولة”، بل إلى تجاوز شكلها المزيّف الذي يُعاد تدويره رغم سقوطه.* لم أقل إن الدولة الحديثة لا بد أن تكون ديمقراطية فقط، بل قلت إن الدولة التي تفقد معناها الأخلاقي والسياسي، التي تتحول إلى ملجأ للنخب الفاشلة، تستحق أن تُسائل لا أن تُؤبَّد.

ومقارنة ما حدث في بورتسودان بما جرى في هايتي، وإن بدت مغرية شكليًا، فهي سطحية في جوهرها. هايتي لم تُدمر من الاحتجاج على الدولة، بل من فسادها البنيوي، من اختلال نظامها الطبقي والاقتصادي والسياسي. والسودان يسير في الطريق ذاته، لا لأننا ننتقد الدولة، بل لأن نخبًا دافعت عن دولة ساقطة بلا حياء، تمامًا كما يفعل الدكتور عبد الله اليوم.

ختاماً، سؤالي لا يزال قائمًا: ماذا تبقى من “السودان الرسمي”؟ أين هي الدولة التي تستحق الدفاع؟ من الذي يقف مع الحق، ومن الذي يتباكى على هياكل مهترئة لأنها تمنح شرعية لنخبة منفصلة عن شعبها؟

*نحن لا نهدم، بل نسعى لإعادة البناء. لا ندعو إلى “الحل في الحل”، بل إلى وعي جديد، يُقيم دولة لا تعيش على العنف، ولا ترتدي رداء الحداثة لتبرير الهمجية.*

وللدكتور عبد الله أقول: ليس من الحكمة أن نتمسك بسياج لا يمنع الذئاب، بل يحميها من غضب الرعية. وليس من الشجاعة أن نخلط بين تحليل فيبر، وأحلام الشعوب التي لم تعد تقبل بدولة بلا قلب، ولا رأس، ولا مشروع، ولا معنى.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.