مهدي عبدالله يكتب: جدلية الْهُوِيَّة ومأزق إدارة التَّنَوُّع، تحديات تواجه عملية تأسيس الدولة السٌّودانية

جدلية الْهُوِيَّة ومأزق إدارة التَّنَوُّع، تحديات تواجه عملية تأسيس الدولة السٌّودانية

 

بــ قلم: مهدي عبدالله حامد

(الموج الصحوي)

 

     تمثّل هذه الورقة محاولةً للإضاءة على واقع التنوع وإدارته وإشكالياته في السُّودان، والفرص التي يمكن العمل عليها فيه مستقبلاً، عبر استخدام المنهج الوصفي التحليلي.

 

إدارةُ التنوعِ في أي مجتمعٍ متنوعٍ قضيةٌ جوهريةٌ في بناء هوية وطنية جامعة؛ إذ إن التنوع يتحول من دونها إلى عاملِ تفتيتٍ من الداخل، وقد نجحت بعض الدول في تحويل تنوعها إلى عامل قوة،

 

       تاخذ مسألة الهوية اليوم حيزًا هامًا في النقاشات لدى “النخبة السيِّاسيِّة،الإجتماعية، الفكرية ، الثقافية ، الإعلامية، والاكاديمية” فهي قضية العصر ، وموضوع اللحظة وضمن الملفات الشائكة والقضايا المُعقدة والأزمات المُتناسلة التي قادت الي فصل جنوب السُّودان سابقًا وتشعل منصات التواصل الإجتماعي الآن

 

    الهُويّة هي الخصوصيّة والذّاتيّة وهي ثقافة الفرد ولغته وعقيدته وحضارته وتاريخه وتراثه وعاداته تقاليده …الخ

 

    الهُوية هي أحد المشاكل التي إزدادت تعقيدا وهي أزمة متوارثة لا يمكن حلها بالقوة أو بالحسم ولا حتى بالطلاء التنظيري للمثقفاتية، وهناك إشكالية مرتبطة بمفهوم الهوية إذ ينظر الكثيرون للهوية علي أنها مجرد موروثات من المآضي تُورث من جيل آخر ، لكن هؤلاء يتنآسون أن الهوية في جزءًا منها تشكل مشروع مستقبلي منفتح دائماً علي القابلية للتجدد وإعادة التشكيل وإكتساب سمات جديدة باستمرارية

 

     ظل السودانيون فترات طويلة يبحثون عن مخرج لقضايا عالقة وشائكة أبرزها مسألة “هويات” الدين والعرق واللغة والثقافة لكن الحلول والإتفاقيات التي تم التوصل إليها حتي اليوم ظلت قاصرة لم تعالج هذا المأزق وبالمُقابل ظلت النقاشات تدور حول أطروحات أحادية وإنحيازات ايدلوجية أعاقت من التوافق علي صيغة تمكننا من حسم هذه الجدلية.

 

      إذ أنْ أخطر المهددات التي تواجه السُّودان اليوم تتمثل في محاولات البعض لبناء الوطن برؤى احادية قائمة علي التخندق الإثني أوْ التعصب العقائدي أوْ الجمود الأيدلوجي الذي يفرض فرضا علي الآخرين

 

    وبطيبعة الحال إنَّ الصراع السياسي والإجتماعي في البلاد ليس نزاع حول السُّلطة فحسب وإنما أهواء مرتبطة بالجهة والعرق واللغة والدين جعلت الدولة مهددة بالتصدع وتعميق المشكلات بالمزيد من التشظي والإنقسامات الأمر الذي أدى للإحباط المستوطن والأفق المسدود الذي ساد الحاضر والظلام الدامس الذي يكتنف المستقبل.

 

     وبالطبع أْن تعرجات ومطبات الواقع السياسي العديدة تختلط فيها الأولويات والترتيب مع وجود عدة خلافات وتباينات فكرية وأيدلوجية وقبلية تمنع من التوصل إلي نقاط مشتركة تدفع بإتجاه حل موضوعي لهذه الأزمة المُستفحلة.

 

   وبالمُقابل إنَّ أبرز التحديات والمصاعب التي واجهت النخبة السيِّاسيِّة والفكرية والأكاديمية حتي الآن تتمثل في مأزق “فشل إدارة التنوع” التي يٌفترض ان تكون لها “منظومة متكاملة” وخطة إستراتيجية واضحة تستهدف صغار السن عن طريق المقررات التعليمية وحملات التوعية المكثفة والموجهة عبر وسائل الإعلام والبرامج الوطنية وتسليط الضوء علي بعض المفاهيم والأطروحات وتقديم الخدمات ذات الصلة بالمجتمع الكبير ككل التي يمكن أنْ تُساهم في رفع وعيه لجهة ترسيخ معاني الوطنية العليا وتعزيز ضرورة قبول الآخر والتعايش السلمي المشترك معه الذي تقتضيه الضرورة الإجتماعية لتحقيق غاية التمازج والتشبيك في اطار وطن يسع الجميع دون تمييز

 

   المشكلة ليست في التنوع بحد ذاته وإنما في سوء إدارته بحكمة وإنسانية بل بالعكس من ذلك قد تم إستغلاله بطرق مغايرة وتوظيفها في الصراعات السيِّاسيِّة لتحقيق الأطماع وتلبية الطموح ، الأمر الذي أدى إلي تداعيات خطرة وإفرازات سلبية قادت إلي عدم الإستقرار السياسي والإقتتال الأهلي ونشوب الحروبات العبثية علي أساس اللون أو العرق أو التوجه الأيدلوجي مما قاد إلي تقلب أنظمة الحكم في البلاد وأدى لعدم الاستقرار السياسي

 

   إنَّ التحدي الذي يواجهنا اليوم إذا ما أردنا حل لهذه الأزمات وإحداث تحولا ونموذجا معرفيا جديدًا لإدارة التنوع الثر والتعدد الفريد” لابد من القيام بتحقيق نقلة نوعية في تطور الوعي بتغيير السائد من مفاهيم وهدم البائد من ممارسات علي الرغم من إنَّ العمل لا يتوقف عند الوعي فقط وإنما التقدم لصياغة مشروع “دستور دائم” يتضمن حقوق المواطنة المتساوية ووضع بنود واضحة مع التشديد علي أهمية تطبيقها وإنزالها علي أرض الواقع وإرساء العدل والمساواة بين الجميع مع تجريم وتحريم ومنع إستخدام الدين أو العرق أو الجهة في الصراعات السيِّاسيِّة أو المطلبية.

 

ولا يكون ذلك إلا بالتغيير الشامل بعمق ومخاض عسير ينتج عملية تأسيس الدولة السُّودانية الجديدة العلمانية الديموقراطية الدستورية الثورية المرتقبة.

 

ينبني على ما تقدم نتيجة مهمة هي: لا يمكن الحديث عن أي دور فعّال ومؤثّر في مجال إدارة التنوع دون تحقيق انتقال سياسي يتجاوز المسبِّب الرئيس لفشل إدارة التنوع وهو نظام دويلة 1956م البائس، فالضرورة تحتم الانتقال إلى نظام وطني يمتلك مؤهلات إدارة التنوع؛ فهذا من ناحية. ومن ناحية أخرى يتطلب وجود قناعات حقيقية بضرورة احترام قضايا الانتماء والهوية المرتبطة بغالبية الشعوب، أي تجاوز مسألة المطالبة بـ”وضع نصوص شكلية” تعتمد على تدوير الأزمات والرجوع مرة آخرى إلي مربعات الفشل العليلة.

 

خاتمة وتوصيات:

تبين لنا التجارب أن الركيزة الأساسية للنجاح في إدارة التنوع هي: وجود ثقافة عامة لدى مختلف المكونات تقبل بالعيش المشترك، في ظل وجود سلطة وطنية حريصة على بناء هوية وطنية جامعة وإدارته بطريقة إيجابية تمثلت في بُعدَين؛ الأول: استيعاب مختلف المكونات ضمن بوتقة وطنية واحدة “الأدوات الاستيعابية”، والثاني: احتفاظ كل مكون بخصوصيته بما لا يتناقض مع البعد الأول “أدوات تقاسم السلطة وأدوات السياسات العامة”.

 

ولمعالجة هذا الخلل فلابد من العمل على الأدوات المتاحة لإدارة التنوع إيجابياً؛ وذلك عبر إنشاء المنصات الحوارية، ونشر ثقافة التنوع والقبول بالآخر، والتدريب والتأهيل في آليات الاختلاف والتنوع، بالإضافة إلى الجوانب التعليمية والتثقيفية والتوعوية “التوعية المجتمعية” التي يمكن أن تسهم في بناء نسق وطني موضوعي ، وهذا البناء التحتي -إن صحّ التعبير- قد يتطلب وقتاً طويلاً لتنفيذه؛ لأن سياق المراحل الانتقالية عادة ما تقوم على الاستدامة وطول المدة ، ويركز على أدوات الإقناع والتوافق أكثر من الأدوات القسرية

 

بناءً على ذلك: ريثما يتحقق الانتقال السياسي -وهو الشرط الأساسي لإيجاد مناخ يفتح المجال لإدارة صحيحة لإدارة التنوع- فإنه يمكن العمل تدريجياً وحثّ المجتمع المدني على مباشرة دوره الأساسي في بناء الهوية الوطنية وإدارة التنوع ، ثم بعد ذلك سعيه لنشر ثقافة تقبُّل التنوع وثقافة الاختلاف.

ضرورة تعزيز فكرة اللامركزية في إدارة التنوع عبر توعية منظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية -بغضّ النظر عن المشاكل التي تعاني منها بنيوياً ووظيفياً في الوقت الحالي- بدورها في مجال تعزيز ثقافة التنوع وقبول الآخر.

العمل على تحقيق بيئة تفاعلية بين المكونات على الأقل في الجانب الافتراضي كالمنتديات والجلسات الحوارية ؛ فانعدام التفاعل سيؤدي إلى زيادة الشروخ الاجتماعية حتى داخل المكون نفسه ،إيجاد البيئة القانونية والاجتماعية والثقافية التي تشجع على التنوع في الفضاء العام عبر البرامج الحوارية التي تُظهر الاختلاف وتحترمه.

 

تمثل الأدوات الاستيعابية المجال الأساس لبناء هوية وطنية جامعة، وانعدامها يعني اتجاه الدولة نحو التفتت والتمسك بالهويات الفرعية، جهوية كانت أم عرقية؛ ولذا يجب على المجتمع المدني  تخصيص جزء من جهوده لإبراز الهوية الوطنية وثقافتها وإرثها، وليس الاكتفاء بالحديث عن الأدوات التوافقية والاندماجية والسياساتية العامة التي تسعى على

التوعية بقبول التنوع والتشجيع عليه ضمن مجالها الخاص للتخلص من تبعات حقبة الاستبداد ورفض الآخر التي كرستها سياسات نظام الحركة الإسلامية.

 

فمن المعلوم بالضرورة أن عملية تأسيس الدولة السٌّودانية العلمانية الديموقراطية الدستورية الثورية تواجه تحديات عظيمة ومطبات حرجة تتعلق بكيفية معالجة الاختلالات التاريخية ومسائل علاقة الدين بالدولة وجدلية الهويات ومأزق إدارة التَّنَوُّع وببساطة شديد يكمن الحل الجذري ضمن مزايا العلمانية التي جعلت ذلك ممكنا.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.