د.الوليد مادبو يكتب.. السودان: أخر بؤرة للإرهاب في العالم
السودان: أخر بؤرة للإرهاب في العالم
دكتور الوليد آدم مادبو
“الوطن ليس هو الأرض، بل هو الإنسان حين يُصدِّق أنه يستحق الحياة، ويبدأ في تحرير نفسه من الكذب الموروث.”
— الطيب صالح
في الخرائط القديمة، كان السودان يلوح كظلٍ قلق على تخوم الصحراء، بلدٌ مكسورٌ على ركبتيه منذ أن هبطت عليه لعنة التاريخ والجغرافيا معاً. واليوم، يبدو أن الزمن يعيد دائرته: بلدٌ يبحث عن خلاص، لكن من خلال أدوات الخراب ذاتها. هنا، تقف “المقاومة الشعبية” كاسم حركي مموّه، لكنها ليست سوى التجسيد المتجدد للحركة الإسلامية، وقد أعادت توضيب خطابها الجهادي في عباءة الدفاع عن السيادة والهوية، وهي في جوهرها لا تزال تحلم بالتمكين، وتدير معركتها تحت ظلال البندقية والتكبير.
منذ أن دخلت الحركة الإسلامية إلى الخرطوم محمولة على دبابات الإنقاذ في 1989، كانت تعرف أن مشروعها لا يقوم على عقد اجتماعي، بل على مشروع غيبيّ مسلح. جمعت بين آليات الدولة البوليسية وفانتازيا الجهاد الكوني، وصدّرت مقاتليها من الجنوب إلى الشيشان، ومن دارفور إلى مالي. حتى بعد أن تم تفكيك دولتها اسميًا في 2019، لم تتبخر شبكاتها، بل أعادت ترتيب صفوفها، وصنعت لنفسها جبهة جديدة تحت مسمى “المقاومة الشعبية”.
فلنقلها بصدق: السودان لا يحتاج إلى مقاومة ترتدي عباءة الدين، بل إلى مقاومة من نوع آخر: مقاومة الفساد، مقاومة الاستبداد، مقاومة العقل الكسول الذي يجعل من الله ذريعة للقتل، ومن الوطن منصة للاحتكار.
وهنا، لا بد من التوقف عند سؤال الضمير: ما الذي يدفع بعض الدول لدعم الإسلاميين في السودان، في تحدٍّ سافر لإرادة شعبٍ قدّم مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والجرحى للخلاص من هذه المنظومة الفاسدة؟ أهو الإيمان العميق بمشروع الدولة “الإخوانية العابرة للحدود”؟ أم هو مجرد استثمار في الفوضى السياسية والفراغ الاستراتيجي؟
في القاهرة، تتجلى مفارقة التاريخ: بلدٌ أطاح بجماعة الإخوان، لكنه يحتضن تيارًا من الجيش مخترقًا بروح الإسلاميين. رجال كرتي وأسامة عبدالله وأحمد هارون لا يخططون من كهوف بعيدة، بل من دهاليز بيروقراطية ما زالت تحكم قبضتها على القرار العسكري في السودان. وها هي مصر، بنَفَسها الأمني المزدوج، تضغط على السعودية من بوابة “الشرعية المؤسسية”، فتنقل إلى الرياض صورة زائفة (منمّقة) عن جيش سوداني محافظ، بينما الحقيقة أن هذا الجيش ليس سوى امتياز طبقي وعرقي محمي بالسلاح والدعاية الإعلامية والذهب.
بالنسبة لدولتيّ قطر وتركيا، فدعمهما يأتي في إطار سعيهما لتعزيز نفوذهما في المنطقة. سَبَقَتْهما إلى هذا المسار الجزائر حين اختارت التعايش مع شبح إسلامي ماضوي بدلًا من مساعدة الشعب السوداني في صناعة عقد اجتماعي يعيد للمجتمع روحه. أمّا بعض الدول التي تدعم الإسلاميين، مثل إيران، فالدافع ليس أمنًا ولا اقتصادًا، بل إيمان أيديولوجي بدور الإسلام السياسي في رسم الخرائط من المحيط إلى الخليج، ولو على حساب الشعوب.
المنطقة، على مفترق طرق. والزيارة المرتقبة للرئيس ترمب إلى الإمارات وقطر والسعودية قد تشكل منعطفًا جديدًا، لا سيما إذا وُضع السودان في أجندة المحادثات. في لحظة إقليمية ترتجف بين الانقلابات والتطبيع، قد تجد الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس ترمب أن الملف السوداني لم يعد يحتمل التأجيل، خاصة بعد أن أصبح بوابة محتملة للنفوذ الروسي، وامتدادًا سائبًا لمشروع الإخوان المسلمين العالمي.
لكن هل تقبل الولايات المتحدة بذلك؟ تلك التي قصفت الحوثيين في اليمن، ودعمت إسرائيل في سحق “المقاومة” بسوريا ولبنان وفلسطين، ترى السودان اليوم من نافذة مصالحها المتحركة، لا من باب المبادئ. فإن دخلت السودان في أجندتها، فلن يكون ذلك رغبة في سلامته، بل خشيًة من وجود قواعد روسية على امتداد الساحل الممتد أكثر من 850 كيلومترًا على البحر الأحمر.
في قلب القارة الأفريقية، يقف السودان عند مفترق طرق تاريخي، تتقاطع فيه أطماع الداخل والخارج، وتتشابك فيه خيوط الماضي والحاضر. فمنذ أن أطاحت الثورة الشعبية بنظام البشير، لم تهدأ العواصف، بل تبدلت الوجوه وتغيرت الشعارات، بينما بقيت البنية العميقة للسلطة على حالها.
ومع كل ذلك، يبقى في الأفق ما يستحق الانتباه: جيل الثورة. ذلك الجيل الذي لم يُخدع بأوهام الماضي، ولم ينجرّ إلى مساومات الحاضر. جيل يعرف أن الوطن لا يُدار بالمزايدة على الله، ولا بالمتاجرة بالدم. يخرج من بين ركام الخراب وهو يحلم بسودان جديد، ينسلّ من بين أصابع الموت، ويمضي نحو مجتمع دولي يرى فيه صديقًا لا ضحية. وطن لا يُستعمل كمنصة للإرهاب، ولا يُتخذ رهينة لشعارات أكلها الزمان.
ختاماً، ليست “المقاومة الشعبية” في السودان سوى اسم مستعار لظلٍ قديم يتقن التخفي وتغيير الأقنعة. فالحركة الإسلامية التي قهرت الشعب باسم الله، ها هي تعود من شقوق المرحلة، متنكرة بثياب “المقاومة الشعبية”، تحاول أن تكتسب شرعية جديدة من رماد وطن لم يعد يملك إلا ذاكرته الجريحة.
في هذا البلد المنهك، لا تنتهي الأساطير بل تعيد إنتاج نفسها. من الخرطوم إلى بورتسودان، من عطبرة إلى الجيلي، تتسلل سردية “الجهاد الكوني” بخفة الذئب الجائع، تحمل خطابًا مألوفًا في نبرته، جديدًا في وسائله. لكنها تظل حبيسة الفكرة القديمة: احتكار الحقيقة، وإقصاء الآخر، وتسخير الوطن لصالح مشروع متعالٍ على الإنسان والتاريخ.
May 13, 2025