محمد هاشم محمد يكتب: سيلفي والدخان خلفي..

الإعيسر- حرائق بورتسودان

سيلفي والدخان خلفي..

✍️ محمد هاشم محمد الحسن

في مشهد عبثي يختزل مأساة وطن، تجلى لنا وزير الثقافة والإعلام السوداني، خالد الاعيسر، نجماً باهتاً في سماء الغرب الملتهب. لا ليقود فرق الإطفاء، ولا ليواسي منكوبي النيران، بل ليقف شامخاً، وخلفه دخان المستودعات المتصاعدة يوشوش حكايات الخراب. ويا له من انقلاب في الأدوار! ففي أبجديات العمل العام، يفترض أن يكون الوزير هو العين الراصدة لجهود المخلصين، هو المؤرخ بالصورة لكفاح رجال الإطفاء وهم يتصارعون ببسالة مع ألسنة اللهب. لكن هنا، تحولت المعادلة السحرية إلى صورة معكوسة باحترافية ساخرة. المفترض أن يكون وزير الثقافة والإعلام هو الراوي الأمين لتضحيات رجال الإطفاء، هو المؤرخ بالصورة لبطولاتهم وهم يصارعون النيران. لكن في هذا المشهد العبثي، يتحول إلى نجم باهت في سماء دخانية، بينما عدسة التوثيق تتجه نحوه هو، لا نحو الفعل البطولي. ألا يستحق هؤلاء الرجال الذين يواجهون النيران بصدورهم عدسة تقدير لا عدسة تلميع ذات وزير؟

تخيلوا معي المشهد! أحدهم، ربما فرد بسيط من رجال الإطفاء الذين أرهقهم لهيب النيران ودخانها الخانق، يجد نفسه فجأة مصوراً فوتوغرافياً قسرياً. عدسته موجهة نحو قامة الوزير، الذي يبدو وكأنه يستعرض أناقته أمام خلفية دخانية خلابة. يا له من تكريم معكوس! بدلاً من أن يلتقط الوزير صوراً تخلد تضحيات هذا الرجل وهو يخاطر بحياته لإطفاء حرائق رزق الناس، يصبح رجل الإطفاء نفسه أداة لتلميع صورة الوزير. كأن لسان حال الصورة يقول (انظروا إليّ، أيها الشعب المحترق، أنا هنا، وخلفي دليل على اهتمامي… أو حضوري على الأقل!).

هذه الصورة الفوتوغرافية، أيها السادة، ليست مجرد لقطة عابرة. إنها تعيد إلى الأذهان أشباح الماضي القريب والبعيد، تستحضر أرواحاً سكنت كراسي الإعلام يوماً، فحولتها إلى منابر للوهم. نتذكر جميعاً الكوميدي العراقي، محمد سعيد الصحاف، الذي كان يبشرنا بانتصارات وهمية على (العلوج) الأمريكيين، بينما دباباتهم تجوب شوارع بغداد خلف ظهره. فبينما كان الصحاف يهدد ويتوعد قوى عظمى من على شاشات التلفزيون، كان عاجزاً تماماً عن منع دباباتهم من التجول في عاصمة بلاده. الأمر نفسه يذكرنا بوزيرنا الوقور، الذي يطلق التصريحات النارية والتهديدات المباشرة تجاه دولة الإمارات، بينما الدخان يتصاعد خلفه من حرائق مستعرة في وطنه، وهو يقف عاجزاً حتى عن توثيق جهود إطفائها، فضلاً عن إخماد ألسنة اللهب بنفسه.

ولا يمكن لهذا السيلفي الناري ايضا إلا أن يستدعي طيف إسحق غزالة وخرافاته التي كانت تتطاير كالشظايا في سماء الإعلام السوداني إبان حكم الإنقاذ. قصص عن انتصارات موهومة، وإنجازات خيالية، كانت تغذي الجمهور بمسكنات كاذبة بينما الوطن ينزف بصمت. واليوم، ونحن نستمع إلى وزيرنا وهو يبشرنا بـ النصر الآتي وصمود الشعب الذي لا ينكسر، تتصاعد أعمدة الدخان خلفه لتكذب هذه الادعاءات. أي نصر هذا الذي يأتي والوطن يحترق؟ وأي صمود هذا الذي يتحدث عنه والناس يفقدون أرواحهم وممتلكاتهم؟ إنها نفس الأسطوانة المشروخة التي كان يرددها إسحق غزالة، تغذي الوهم وتتجاهل الواقع المرير. لقد شهد التاريخ القريب والبعيد نماذج مشابهة، حيث ينشغل البعض بتلميع صورهم بينما النيران تلتهم الأوطان.

يا له من إرث ثقيل يحمله هؤلاء القوم! فبدلاً من أن يكون الإعلام مرآة صادقة تعكس الحقائق وتواجه التحديات، يتحول إلى منصة لتجميل القبح وتجاهل الكوارث. الدخان المتصاعد خلف الوزير ليس مجرد نتاج حريق في مستودع فحسب، بل هو رمز للدخان الذي يحجب الرؤية عن الحقائق الموجعة، الدخان الذي يلف قصص الفشل والضياع. ويا لها من صورة بائسة، وزير يظهر نجماً في سماء الغرب الملتهب، حيث (الغرب) هنا ليس مجرد اتجاه جغرافي، بل هو رمز للدمار والخراب الذي يلتهم الوطن، وأفول الأمل في لحظة غروب قاتمة.

إنها حسرة عميقة تنتاب المرء وهو يرى ممثلي حكومة يفترض أنها تعبر عن آمال شعب يكابد الويلات، وهم يلتقطون صور الانتصار على خلفية خراب يئن. أين المسؤولية؟ أين الإحساس بوجع المواطن الذي يرى دخان الحرائق يلتهم رزقه ومستقبله؟ أين تلك الكلمات الصادقة التي تواسي وتشد من أزر المكلومين؟

بدلاً من ذلك، يقف الوزير لالتقاط سيلفي المجد والدخان الأسود يرتفع خلفه شاهداً على زمن العبث واللامبالاة. إنها صورة تختزل مأساة أمة، وتصرخ في وجه الضمير الإنساني إلى متى سيظل الدخان يغطي سماء أوطاننا، بينما ينشغل الممثلون بتوثيق لحظاتهم الفارغة؟ ومتى سندرك أن البطولة الحقيقية تكمن في إطفاء النيران لا في التقاط الصور أمامها؟ يبقى الدخان شاهداً… ويبقى السؤال معلقاً إلى متى؟

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.