عبد المنعم هلال يكتب .. من (هي لله) إلى (هي لنا) الكيزان بين الشعارات والواقع
من (هي لله) إلى (هي لنا) الكيزان بين الشعارات والواقع
هلال وظلال
عبد المنعم هلال
في بداياتهم لم يكن الكيزان مجرد تيار سياسي عادي بل حركة عقائدية طرحت نفسها كبديل أخلاقي وإصلاحي رافعةً شعارات مثل (هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه) و(لا ولاء لغير الله ولا تبديل لشرع الله) وغيرها من العبارات التي دغدغت مشاعر البسطاء لكن مع مرور الوقت ومع اختبارهم الحقيقي في السلطة تبدد وهج الشعارات وانكشف الوجه الحقيقي للحركة حيث تبين أن (التمكين) لم يكن سوى مشروعٍ للسيطرة على مفاصل الدولة وإعادة تشكيل المجتمع وفق مصالحهم وليس وفق المبادئ التي بشروا بها.
حين استلموا الحكم بدأ الكيزان بتنفيذ مخططهم المعروف بـ(سياسة التمكين) والذي لم يكن سوى عملية استبدال ممنهجة للكفاءات الوطنية بعناصر موالية لهم بغض النظر عن الكفاءة أو القدرة على إدارة الدولة وتحت عنوان (الصالح العام) تم إقصاء عشرات الآلاف من الموظفين وحلت محلهم كوادر حزبية تدين بالولاء لا للكفاءة ولا للوطن بل للجماعة فقط وكان هذا التحول القاتل إيذاناً ببدء عهد من الفشل المؤسسي حيث تراجعت الخدمات وتدهور الاقتصاد وانتشرت المحسوبية وعم الفساد.
لم يكن الهدف من التمكين بناء دولة عادلة بل كان وسيلة لضمان بقاء السلطة في أيديهم أطول فترة ممكنة ولقد أصبح الانتماء للجماعة هو المعيار الأول للحصول على المناصب وأصبحت المؤسسات العامة مسرحاً لصراعات داخلية بين الأجنحة المتنافسة داخل النظام حتى بات الفساد مشرعناً بحماية الدولة نفسها.
قبل وصولهم إلى الحكم كان الكيزان يدعون الزهد والتجرد عن الدنيا وكانوا يظهرون أنفسهم كحركة تقوم على الأخلاق والنقاء والورع لكن ما إن تمكنوا حتى تحول الزهد إلى ترف وأصبح (التجرد) مجرد شعار أجوف وانتشرت مظاهر البذخ في قصورهم واكتنزوا الأموال وفتحت لهم خزائن الدولة دون رقيب أو حسيب وتضخمت ثروات قياداتهم بطريقة أثارت الدهشة والاشمئزاز في الوقت الذي كان المواطن العادي يعاني من الضيق الاقتصادي كانت قياداتهم تتنقل بين القصور الفاخرة وتستثمر في الشركات العابرة للقارات وتمتلك حسابات سرية في البنوك الأجنبية وحتى قواعدهم من الموظفين الصغار ظهرت عليهم آثار النعمة وتبدلت أحوالهم بما لا يتناسب مع دخلهم المحدود ومن أخطر ما فعله الكيزان أنهم لم يكتفوا بسرقة المال العام بل قاموا بتبرير ذلك دينياً مستخدمين فتاوى وتأويلات تخدم مصالحهم تارة يصفون ذلك بأنه (رزق ساقه الله إليهم) وتارة يبررون الفساد بأنه ضرورة لحماية مشروعهم السياسي حتى أصبح (النهب المنظم) و(النهب المصلح) ثقافة داخل مؤسسات الدولة وقد اعترف شيخهم بذلك.
لم يكن الفساد يقتصر على المسؤولين الكبار فحسب بل أصبح شبكة واسعة تبدأ من قمة السلطة وتصل إلى أصغر موظف في الدولة بحيث أصبح الحصول على وظيفة أو خدمة حكومية مرهوناً بالانتماء السياسي وليس بالمؤهلات أو الخبرة ولا يحتاج إلا إلى لبسة اشتراكية وشنطة (تمكّنا).
إن الانهيار الذي واجهته الحركة الإسلامية السودانية لم يكن مجرد صدفة بل كان نتيجة طبيعية لنهجها الذي اعتمد على ازدواجية الخطاب حيث كانت تقدم وجهاً مثالياً أمام المواطنين بينما كانت تمارس النقيض تماماً في الخفاء. ومثلما حدث مع العديد من الحركات الأيديولوجية الأخرى فإن التناقض بين الشعارات والممارسات كان أكبر عدو لها.
لقد أثبت التاريخ أن الحركات التي تصل إلى السلطة بشعارات مثالية دون أن تمتلك رؤية حقيقية لبناء دولة قائمة على المؤسسات والعدالة مصيرها السقوط المحتوم فهل هناك درس يمكن استخلاصه من تجربة الكيزان ..؟ أم أن التاريخ سيعيد نفسه مع آخرين يرفعون شعارات مشابهة لكن بمسميات مختلفة ..؟ .