محمد هاشم محمد يكتب: القاهرة ورهان الهوية في السودان
القاهرة ورهان الهوية في السودان
محمد هاشم محمد الحسن.
في خضم المشهد السوداني المتشظي، حيث تتداخل خيوط الأزمة وتتصاعد حدة الصراع، وتتزايد تعقيدات التوازنات الإقليمية والدولية، يظل تحليل الدكتورة أماني الطويل رؤية استراتيجية تستحق التأمل، وبوصلة مهمة لمحاولة استشراف توجهات القاهرة تجاه هذا الجار الجنوبي الملتهب. حديثها، الذي يراهن بوضوح على الجيش السوداني في تحجيم دور جماعة الإخوان المسلمين، لا يمكن قراءته بمعزل عن تاريخ معقد من العلاقات المصرية السودانية، وهواجس القاهرة الأمنية والإيديولوجية، فضلاً عن التطورات الميدانية والتحولات الإقليمية المتسارعة.
إن جوهر تحليل الطويل يرتكز على رؤية استراتيجية مصرية ترى في صعود نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في السودان تهديدًا وجوديًا. هذا الهاجس ليس وليد اللحظة، بل يعود بجذوره إلى تاريخ من الصراع الإيديولوجي والسياسي بين النظام المصري والجماعة الأم، والذي يخشى من امتداد نفوذه عبر الحدود. لذا، فإن الانقسام الحاصل في صفوف الجبهة الإسلامية القومية وضعفها النسبي بعد ثورة ديسمبر، ومع تزايد الفوضى التي أحدثتها الحرب الراهنة، يمثل، في نظر القاهرة، فرصة سانحة لتقويض هذا النفوذ بشكل جذري.
اللافت في تحليل الطويل، والذي يزداد وضوحًا في ظل الأحداث الجارية، هو الرهان الصريح على المؤسسة العسكرية السودانية، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، كأداة رئيسية لتحقيق هذا الهدف. هذا الرهان يستند إلى عدة اعتبارات منطقية من المنظور المصري. أولاً، يمتلك الجيش السوداني، رغم التحديات التي يواجهها في الحرب ضد الدعم السريع، قوة مؤسسية وتنظيمية وعسكرية تاريخية تمكنه من فرض إرادته في مواجهة القوى السياسية الأخرى، بما في ذلك التيار الإسلامي.
ثانياً، تاريخ العلاقات بين المؤسسة العسكرية السودانية والحركات الإسلامية شهد تقلبات وصراعات على النفوذ، مما قد يجعل الجيش أكثر استعدادًا لتحجيم دور الأخيرة للحفاظ على سلطته واستقلاليته في ظل السعي لإعادة بناء الدولة.
ثالثاً، قد ترى القاهرة أن الجيش، في سعيه نحو الاستقرار وتوحيد البلاد واستعادة السيطرة، سيجد نفسه مضطراً لتقليل نفوذ أي فصيل سياسي يثير الانقسام أو يمتلك أجندةإيديولوجية قد تعرقل هذا المسعى، خاصة مع تزايد الأصوات المطالبة بدولة مدنية علمانية.
إلا أن هذا الرهان المصري لا يزال يواجه تعقيدات المشهد السوداني الداخلية والقيود المحتملة على قدرة البرهان على فك ارتباطه الكامل بالإسلاميين، بل قد يزداد هذا التعقيد في ظل الحاجة الماسة للجيش لأي دعم في مواجهة الدعم السريع. فتاريخ التحالفات والمصالح المتداخلة بين قطاعات من الجيش والحركة الإسلامية قد يكون أعمق مما تتصوره القاهرة، بل وربما برزت بعض القوى الإسلامية المقاتلة علنًا لدعم الجيش خلال الحرب، مما يعقد أي محاولة للفصل التام. هذا التقارب التكتيكي، المفروض بضغوط الحرب، يمثل تحديًا كبيرًا للرهان المصري على فك الارتباط، وقد يرى الجيش فيه الخيار الأقل سوءًا للحفاظ على وجوده وصموده في مواجهة عدو مشترك، حتى لو كان ذلك يتعارض مع الرؤية المصرية طويلة المدى. كما أن هذه العلاقة التكتيكية تعزز خطاب الدعم السريع الذي يدعي أنه يحارب فلول النظام السابق (الإسلاميين) في الجيش، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي ويصعب من أي عملية سلام شاملة.
فضلاً عن ذلك، فإن الإسلاميين ما زالوا يمتلكون قواعد دعم اجتماعي وشبكات نفوذ، بما في ذلك الدولة العميقة لهم في المؤسسات المدنية والاقتصادية والاجتماعية، قد يحتاجها الجيش في موازنة قوى أخرى أو في الحفاظ على استقرار هش في مرحلة ما بعد الحرب، ويصعب تفكيكها حتى لو تم تحجيم دورهم العسكري. وقد يخشى البرهان من رد فعل عنيف من قبل الإسلاميين إذا شعروا بالتخلي عنهم، خاصة في ظل حالة الاستقطاب السياسي الحاد والسيولة الأمنية التي تشهدها البلاد.
من زاوية أخرى، يمكن قراءة تحليل الطويل، حتى وإن كان يلامس رؤى سابقة، كرد فعل مصري مبطن على تصريحات بعض القيادات الإسلامية السودانية، والتي قد لا تتماشى مع المصالح المصرية أو رؤيتها للمستقبل السياسي في السودان. وقد يكون هذا التحليل بمثابة رسالة غير مباشرة للبرهان بضرورة الانتباه إلى هذه التصريحات وتأثيرها على العلاقات مع القاهرة، لا سيما في ظل استمرار الدعم المصري المعلن وغير المعلن للجيش السوداني.
يزداد تعقيد المشهد مع وجود مخاوف مصرية عميقة من الدعم السريع كبديل للإسلاميين. فبينما تركز القاهرة على تحجيم الإسلاميين، فإن صعود الدعم السريع كقوة موازية وربما مهيمنة يمثل تهديدًا مختلفًا للقاهرة، التي تخشى من فوضى الدولة وانهيار المؤسسات، وهو ما قد يؤدي إليه انتصار الدعم السريع أو سيطرة غير منضبطة له، فضلاً عن التخوف من ارتباطاته بقوى إقليمية أخرى قد لا تتماشى مصالحها مع المصالح المصرية. لذا، ترى مصر في الجيش المؤسسة الوحيدة القادرة على حفظ تماسك الدولة السودانية، بغض النظر عن بعض التداخلات مع الإسلاميين، مما يبرر رهانها الأخير.
الأكثر إثارة للتأمل، ويزداد أهمية في الراهن، هو البعد الإقليمي لهذا التحليل. ففي ظل التقاربات التركية مع بعض الأطراف الإسلامية في المنطقة، وظهور قوى إقليمية أخرى تسعى للتمدد في الفضاء الأفريقي، قد يكون رهان القاهرة على الجيش السوداني في تحجيم الإسلاميين محاولة لقطع الطريق على أي تحالف استراتيجي محتمل بين أنقرة والخرطوم عبر هذه القوى، أو منع أي نفوذ غير مرغوب فيه على الحدود المصرية. هنا، يبرز السؤال حول قدرة مصر على تقديم بديل استراتيجي واقتصادي وعسكري للجيش السوداني يغنيه عن أي تقارب مع قوى إقليمية أخرى قد تقدم له دعمًا عسكريًا نوعيًا (مثل الطائرات المسيرة التي أثبتت فعاليتها). في حين قد يكون من الصعب على القاهرة تقديم دعم نوعي مماثل لما تقدمه تركيا أو دول أخرى، إلا أن مصر تمتلك أدوات نفوذ أخرى لا تقل أهمية، كالدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والأمني والاستخباراتي، فضلاً عن الروابط التاريخية والثقافية العميقة التي تربط البلدين. كما أن القاهرة قد تستفيد من رغبة الجيش في تأمين ظهره الشمالي والاستفادة من التجربة المصرية في بناء مؤسسة عسكرية قوية ومتجانسة.
تتفاقم الضغوط على الموقف المصري جراء التداعيات الإنسانية والاقتصادية للأزمة، حيث يمثل تزايد أعداد اللاجئين السودانيين في مصر عبئًا اقتصاديًا واجتماعيًا كبيرًا، ويزيد من إلحاح القاهرة على إنهاء الحرب واستعادة الاستقرار في السودان مع ضمان مصالحها الحيوية والاستراتيجية. كما أن الأزمة تؤثر بشكل مباشر على الأمن الحدودي ومكافحة التهريب والجريمة المنظمة، مما يدفع مصر نحو دعم أي مسار يعيد الاستقرار للحدود الجنوبية.
وفي سياق المبادرات الإقليمية والدولية، فإن رهان القاهرة على الجيش السوداني يتفاعل مع جهود منبر جدة، ومبادرة دول جوار السودان، ومحاولات الاتحاد الأفريقي والإيغاد. ترى القاهرة في هذه المبادرات فرصًا لدعم موقف الجيش وتعزيز فرص التوصل إلى حلول سياسية، طالما أنها لا تقوض دور المؤسسة العسكرية أو تفتح الباب أمام لاعبين قد يقللوا من نفوذ الجيش نفسه. ومع ذلك، فإن تأثير التدخلات الأجنبية، مثل الدعم العسكري لـ (الدعم السريع) من بعض الدول، يزيد من تعقيد الوضع ويشكل تحديًا إضافيًا للرهان المصري.
في الختام، يمكن القول إن تحليل الدكتورة أماني الطويل، مع إعادة قراءته في ضوء الراهن السوداني المتأزم، يكشف عن رؤية استراتيجية مصرية ترى في السودان ساحة لتصفية حسابات إقليمية وإيديولوجية، مع التركيز على دعم الجيش كقوة قادرة على تحقيق هذه الأهداف. إلا أن هذا الرهان يواجه تحديات جمة في ظل تعقيدات المشهد السوداني الداخلية، والتي تفاقمت بسبب الحرب، وتوازنات القوى الإقليمية المتغيرة. يبقى المستقبل السياسي في السودان مفتوحًا على احتمالات متعددة، وسيظل رهان القاهرة على صراع الهويات الداخلية محفوفًا بالمخاطر والتحديات، خاصة مع استمرار الصراع العسكري وما يفرضه من ديناميات جديدة. إن فهم هذه الديناميات المتشابكة هو مفتاح استشراف مستقبل العلاقات المصرية السودانية وتأثيرها على استقرار المنطقة بأسرها في ظل هذا المشهد الملتهب.