د. أحمد موسى يكتب : من السلطة إلى الدولة – تحديات بناء السودان ما بعد الاستقلال .. الدولة مقابل السلطة – ما الفرق بينهما؟ (٢)
من السلطة إلى الدولة – تحديات بناء السودان ما بعد الاستقلال
د. أحمد موسى قريعي
الدولة مقابل السلطة – ما الفرق بينهما؟ (٢)
عند الحديث عن أزمات الحكم في السودان، يتكرر السؤال: هل نعيش في ظل دولةٍ حقيقية، أم أننا فقط تحت رحمة سلطةٍ متغيرة؟ لفهم جذور هذه الأزمة، لا بد من التمييز بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة، لأن الخلط بينهما كان أحد الأسباب الرئيسية في عدم الاستقرار السياسي منذ الاستقلال.
ما هي الدولة؟
الدولة كيانٌ سياسيٌّ مؤسسيٌّ يتميز بعناصر أساسية تضمن استمراريته واستقلاله، وهي:
- إقليم محدد: تمتلك الدولة حدودًا جغرافيةً معترفًا بها.
- سكان دائمون: تعبر الدولة عن مجتمعٍ له هويةٌ سياسيةٌ موحدةٌ.
- حكومة مستقرة: تعمل وفق قوانينَ ودستورٍ يضمن الفصل بين السلطات.
- سيادة قانونية: تعتمد الدولة على نظامٍ قانونيٍّ يحكم الجميع، بغض النظر عن الحكومات المتعاقبة.
- استمرارية المؤسسات: تبقى مؤسسات الدولة قائمةً بغض النظر عن تغيُّر الحكام أو الأنظمة السياسية.
ما هي السلطة؟
السلطة هي الجهاز التنفيذي الذي يحكم البلاد ويدير شؤونها، لكنها قد تكون مستقرةً أو غير مستقرة، شرعيةً أو غير شرعية، ديمقراطيةً أو استبدادية.
في الأنظمة الديمقراطية: تكون السلطة أداةً لتنفيذ سياسات الدولة، وتتغير عبر الانتخابات دون أن يؤثر ذلك على استمرارية الدولة.
في الأنظمة غير المستقرة: تتحكم السلطة في مؤسسات الدولة بدلًا من أن تحكمها المؤسسات، مما يؤدي إلى الانقلابات والفوضى كلما تغيرت القيادة.
هل السودان دولة أم مجرد سلطة؟
منذ الاستقلال، لم يتمكن السودان من تحقيق الفصل بين الدولة والسلطة، مما أدى إلى عدة مشاكل بنيوية:
- غياب المؤسسات المستقلة
بدلًا من أن تقوم الدولة على مؤسساتٍ وطنيةٍ ثابتة، أصبحت كل سلطةٍ جديدةٍ تعيد تشكيل المؤسسات وفقًا لرؤيتها وأجندتها. تم تسييس القضاء، وتبديل القوانين مع كل نظام حكمٍ جديد، وأصبحت الأجهزة الأمنية أداةً لحماية الحكومات وليس لحماية الدولة والمواطنين.
- السلطة أقوى من الدولة
في السودان، كانت السلطة دائمًا أقوى من مؤسسات الدولة، مما أدى إلى:
انقلاباتٍ عسكريةٍ متكررة، حيث يتم الاستيلاء على السلطة بالقوة دون أن تنهار الدولة بالكامل.
عدم استقرارٍ دستوري، حيث تم تعطيل وإلغاء الدساتير عدة مرات دون تطوير دستورٍ دائمٍ يعكس هوية الدولة.
هيمنة النخب على الحكم، حيث احتكرت مجموعاتٌ محددةٌ القرار السياسي والاقتصادي، مما أدى إلى تهميش مناطق واسعةٍ من السودان.
- الاقتصاد في خدمة السلطة وليس الدولة
في الدول المستقرة، يكون الاقتصاد جزءًا من الدولة، تديره مؤسساتٌ حكوميةٌ مستقلةٌ تسعى لتحقيق التنمية. أما في السودان، فقد ظل الاقتصاد مرتبطًا بالسلطة، حيث يتم توجيه الموارد لخدمة الأنظمة الحاكمة وليس لبناء اقتصادٍ مستدامٍ.
لماذا فشلت النخب الوطنية في بناء الدولة؟
بعد الاستقلال، لم تستطع النخب السودانية الانتقال من حكم السلطة إلى حكم الدولة لعدة أسباب:
- الوراثة المباشرة لهياكل الاستعمار: لم يتم إعادة هيكلة الإدارة أو إصلاح النظام القانوني بما يتناسب مع واقع السودان.
- الانشغال بالصراع على الحكم: ركزت الأحزاب السياسية والعسكر على السيطرة على السلطة بدلًا من بناء مؤسساتٍ قويةٍ ومستقلةٍ.
- إهمال قضية الهوية الوطنية: لم يتم وضع مشروعٍ وطنيٍّ شاملٍ يدمج مختلف مكونات المجتمع السوداني، مما أدى إلى الحروب الأهلية والانقسامات السياسية.
- الفساد وضعف الشفافية: ظلت الموارد تُستغل لخدمة النخب الحاكمة بدلًا من بناء اقتصادٍ متوازنٍ يستفيد منه الجميع.
كيف ننتقل من حكم السلطة إلى بناء الدولة؟
للخروج من هذه الحلقة المفرغة، لا بد من إصلاحاتٍ جوهريةٍ تعيد للدولة سيادتها واستقرارها، من أهمها:
- وضع دستورٍ دائمٍ يُحدد طبيعة الدولة ويفصل بين السلطات.
- إصلاح المؤسسات القضائية والإدارية لضمان استقلاليتها عن السلطة السياسية.
- بناء اقتصادٍ يخدم الدولة والمجتمع، وليس فقط النخب الحاكمة.
- إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية لتكون مؤسساتٍ قوميةً وليست أدواتٍ لحماية الأنظمة.
- تحقيق المصالحة الوطنية لإدارة التنوع الثقافي والعرقي والديني بشكلٍ عادلٍ وديمقراطي.
خاتمة
لا يمكن أن يتحقق الاستقرار في السودان دون إعادة بناء الدولة على أسسٍ حديثةٍ، حيث تكون القوانين والمؤسسات أقوى من الحكام، وحيث يتم التداول السلمي للسلطة دون أن تنهار الدولة مع كل تغييرٍ سياسي.
فهل يمكن تحقيق هذا التحول؟ وما هي التحديات التي تعترض طريق بناء الدولة السودانية؟
هذا ما سنناقشه في المقال القادم.